غزوة بالتيمور... قصة الأسطول الجزائري في إيرلندا

 

معركة بالتيمور - إيرلندا


غزوة بالتيمور ، أو كما يطلق عليها الأوروبيون "نهب بالتيمور" ( the sack of baltimore)، هي غارة شنها الأسطول الجزائري صيف سنة 1631 على قرية بالتيمور الواقعة في مقاطعة كورك بإيرلندا.

بالتيمور قبل الغارة

في هذه الفترة  كانت بالتيمور عبارة عن مستوطنة إنجليزية أغلب سكانها من المستوطنين الإنجليز وقلة من الإيرلنديين، ترزح تحت سلطة آل أودريسكول sO'Driscoll' ،عرفت بنشاطات الصيد و القرصنة على طول الساحل الغربي[1].

غارة بالتيمور

في شهر ماي 1631، انطلقت من ميناء مدينة الجزائر سفينتان جزائريتان،إحداهما كبيرة تحمل 24 مدفعا و 200 رجل، أما الأخرى فأصغر تحمل 12 مدفعا و 80 رجلا، تحت قيادة الأميرال الشهير "مراد رايس الأصغر"، و اسمه الأصلي هو "يان يانسن فان هارلم" [3][2]، و هو قائد بحري هولندي ذاع صيته خلال القرن 17، وقع أسيرا في يد المسلمين، ثم اعتنق الإسلام في مكان ما بمدينة الجزائر، و أصبح من أشهر رياس البحر المسلمين و أكثرهم جرأة و شجاعة.

مراد رايس الأصغر
    مراد رايس الأصغر

بعد عدة أسابيع حلت السفينتان بسواحل مقاطعة كورك بإيرلندا، وخلال المسير أسر البحارة الجزائريون العديد من السفن الصغيرة بأطقمها، و من بينهم رجل من دانجارفن يدعى "جون هاكيت"[1].

يقال أن هدف مراد رايس كان الهجوم على مدينة كينسل Kinsale، لكن هاكيت أخبر الجزائريين أن الدخول إلى هناك صعب جدا بسبب التحصينات الإنجليزية ووجود سفينة ملكية هناك تحمل إسم "الأسد The Lion"، و اقترح عليهم تغيير الوجهة إلى بالتيمور الضعيفة التحصين، ولعب دور الدليل مقابل حريته.

و فعلا، في يوم 20 جوان 1631، على الساعة الثانية صباحا، قبيل الفجر، شن الجزائريون هجوما خاطفا على قرية بالتيمور، كبدوا خلاله الإنجليز خسائر فادحة، و أسروا أكثر من 100 أسير، قادوهم بعدها إلى أسواق العبيد في مدينة الجزائر، و في الصباح الباكر أطلقوا سراح رجلين طاعنين في السن و أربعة بحارة من بينهم "جون هاكيت"، و غادروا المياه الإيرلندية مع حلول الساعة الرابعة مساءا، ليصلوا إلى ميناء مدينة الجزائر بعد خمسة أسابيع في 28 جويلية 1631 [1][2][3].

و هنا نذكر أن المصادر الإنجليزية تحدثت عن وجود 109 أسيرا، و هو نفس العدد الذي سجله القنصل  الإنجليزي في الجزائر "جيمس  فريزل" عند عودة السفينتين إلى المدينة، لكن هذا العدد حسب العديد من المؤرخين يشمل الأسرى الإنجليز فقط دون احتساب عدد الايرلنديين وهو ما جعلهم  يعتقدون أن العدد الإجمالي للأسرى تجاوز 200 أسير مستندين إلى شهادة أحد الفرنسيين المقيمين بمدينة الجزائر آنذاك الذي سجل وصول حوالي 235 أسيرا، لم يعد منهم إلى إيرلندا سوى إمرأتان بعد 14 عاما من الحادثة[4].

أسواق العبيد في مدينة الجزائر
    سوق العبيد في مدينة الجزائر

أما "جون هاكيت" فلم تكن نهايته سعيدة، فقد ألقي عليه القبض، و شنق في إحدى الساحات العامة نظير تعاونه مع الجزائريين ضد بلده الام[1].


مشهد شنق جون هاكيت
    مشهد شنق جون هاكيت

نظريات المؤامرة

إنتشرت الكثير من نظريات المؤامرة عن تواطئ الايرلنديين مع الجزائريين ضد الإنجليز، و إتجهت أصابع الإتهام إلى "والتر كوبينجر Walter Coppinger " الذي حاول إبعاد آل اودريسكول عن القرية، طرد المستوطنين و بسط نفوذه عليها، و هو ما حدث فعلا بعد الغارة (صدفة أو عن قصد)، حيث انتهى عهد اودريسكول بعد 400 عام من السيادة على القرية، و غادرها جل الناجين باتجاه سكيبرين Skibbereen و المناطق البعيدة عن الساحل خوفا من غارات بحرية جديدة، و تجسدت مخططات كوبينجر على الأرض[1].


الغارة في الذاكرة الشعبية الإيرلندية

 اليوم مازالت هذه الغارة حية في الذاكرة الشعبية الإيرلندية، فنجد العديد من المرافق في البلدة تحمل إسم الجزائر،كما يقام بها سنويا مهرجان بالتيمور للقراصنة تخليدا لذكراها.

مطعم الجزائر في بالتيمور
    مطعم الجزائر ببالتيمور

مهرجان القراصنة ببالتيمور
    مهرجان القراصنة ببالتيمور



و من أشهر الأعمال الأدبية و التاريخية التي تناولت الحادثة كتاب "القرية المنهوبة " ل "ديس أكين" [5] و قصيدة الشاعر الإيرلندي الشهير توماس دايفيس نهب بالتيمور  ومن أبياتها:

هتاف الله علا على الصلاة فصراخ و زئير...

تبارك الله !الجزائري هو سيد بالتيمور!

The yell of 'Allah' breaks above the prayer and shriek and roar

!Oh, blessed God! the Algerine is lord of Baltimore

بالتيمور القرية المنهوبة
    كتاب القرية المنهوبة لديس أكين

قرصنة أم رد فعل؟

و كما ذكرنا في البداية، فإن هذه الحادثة و مثيلاتها تذكر في التاريخ الغربي على أنها عملية نهب و سطو و قرصنة، فنجد المؤرخ الفرنسي "دي غرامون De Grammont " مثلا يصف مثل هذه الحوادث قائلا: " إذ كانوا (أي الجزائريين) يعيثون فسادا بصفة دائمة و بجرأة و جسارة حتى سواحل انجلترا و آيسلاندا فضلا عن غيرها" [6]، و يقول في موضع آخر:" لقد أخذت جرأة الرياس الجزائريين (جمع رايس= قائد البحرية) تتطور و تزداد باطراد، و هكذا حجزوا على عباب المحيط الأطلسي السفن الإسبانية المسلحة تسليحا ثقيلا و المحملة بالذهب و الفضة، و البضائع الفاخرة و هي راجعة من أمريكا اللاتينية، كما فاجؤوا أكثر من مرة سكان خليج غسكونيا، و سواحل بحر المانش و بحار إنجلترا، فمن ضفاف ماديرا على الأطلسي إلى صخور الجليد في آيسلندا، ما كان أحد يستطيع أن ينجو من ملاحقاتهم"[7]

كما نجد المؤرخ "رفتيليوس Reftelius" يشير إلى هجوم بالتيمور قائلا:"و لم يقف الجزائريون عند حدود مراسي إنجلترا، بل دخلوا أراضيها، و دخلوا إيرلندا سنة 1631"[8]

و الحقيقة ان هذه الغارات على الأراضي البريطانية (و منها بالتيمور) كانت ردا على الغارات البريطانية العديدة على الجزائر و التي باءت كلها بالفشل و منها:

غارة روبيرت مانسيل Robert Mansell على  مدينة الجزائر يوم 27 نوفمبر 1620.

و غارات أخرى شنها الأميرالات "بلايك Blake " و "آلن Allen" و "مارلبرو "Marlborough على الجزائر العاصمة بين 1622 و 1672، و كانت نتيجتها كلها خسارات لهم و نجاتهم بأنفسهم.

يقول الأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم في كتابه "شخصية الجزائر الدولية و هيبتها العالمية قبل سنة 1830": "كما أن الجزائر، من جهتها لم تكن تكتفي برد هذه الغارات و دحرها، بل كانت هي أيضا تأخذ نفس المبادرات و ترد الكيل بمكيالين"[9].


الفيديو من قناة Abdelkarim Elhag على يوتوب

المراجع:


[1] موقع بالتيمور الإلكتروني: The Sack of Baltimore


[3] Baltimore, Ireland 20 june 1631 by Cindy Vallar






[8]403 .Reftelius: Historisk och politisk beskrifning, öfwer riket och staden Alger,p

[9] مولود قاسم نايت بلقاسم: شخصية الجزائر الدولية و هيبتها العالمية قبل سنة 1830، الجزء الأول، ص.184

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حملة الدوق بوفور سنة 1664 ... قصة انكسار الجيش الفرنسي في جيجل

حملة شارلكان الكبرى و انكساره أمام الجزائر...قصة الجزائر المحروسة أو المحمية بالله