حملة الدوق بوفور سنة 1664 ... قصة انكسار الجيش الفرنسي في جيجل
![]() |
تجدد المطامع الفرنسية في الجزائر
شهر أكتوبر
من عام 1571، تكبد الأسطول العثماني
بمشاركة الأسطول الجزائري خسارة فادحة في وقعة ليبانت ضد "العصبة
المقدسة" و هو تحالف لعدة قوى أوروبية كالبندقية، إسبانيا، جنوة، فرسان مالطا
و آخرون، و هي الفرصة التي استغلتها فرنسا لإعادة إحياء مطامعها القديمة في المغرب
الإسلامي، حيث قدم الملك الفرنسي "شارل التاسع" مشروعا إلى الدولة
العثمانية سنة 1572م-1080ه بواسطة السفير الفرنسي في إسطنبول الراهب "فرانسوا
دونواي" يتضمن طلب الترخيص لحكومته في بسط نفوذها على القطر الجزائري، و
تعيين أخيه "دوق دانجو" حاكما على الجزائر، بدعوى الدفاع عن حمى الإسلام
و المسلمين، و أنها مستعدة لدفع الجزية للباب العالي مقابل ذلك، لكن السلطان العثماني
أعرض عنه، ورغم ذلك أوغلت فرنسا في طموحها وألحت، إلى أن حصلت على رخصة لها في نيل
امتيازات خاصة و تصريح من السلطان بإقامة محارس تجارية بالقالة و غيرها من الساحل
الجزائري، فاكتفت أوليا بذلك، على أنها كانت أولى الخطوات التي خطتها فرنسا
الإستعمارية نحو هذه البلاد، قبل احتلالها السياسي بما يزيد عن قرنين و نصف.
وعن هذه
الإمتيازات يقول المؤرخ الجزائري أحمد توفيق المدني في كتابه حرب الثلاثمائة سنة
بين الجزائر و إسبانيا "وقد حاولت فرنسا دوما ارغام الجزائر، باعتبارها دولة
ذات معاملة ممتازة، حسب نظام الامتيازات القنصلية الذي منحته الدولة العثمانية
لفرنسا، لكن الجزائر كانت ترفض دوما الاعتراف لفرنسا بهذا الحق، و تعاملها معاملة
الدولة الأجنبية المعتادة، تصالحها متى انعقد الصلح، و تحاربها متى تم أجله أو
نقض، و هكذا كان الوضع مرتبكا بين الدولتين، و خاصة فيما يتعلق بالمركز التجاري
الفرنسي لصيد المرجان، الذي كان يفتتح أيام السلم، ثم يحطم و يحتل أيام الحرب و
هكذا دواليك".
الأوضاع الداخلية في الجزائر قبل الحملة الفرنسية على مدينة جيجل
عرفت مدينة
الجزائر بين سنوات 1659م و 1662م اضطرابات خطيرة في هرم السلطة نتيجة تعرض الأسطول
الجزائري لانكسارات متتالية في تلك الفترة، مع ضعف نظام الباشوات المعينين كولاة
لإدارة الشؤون الجزائرية من طرف السلطان العثماني باسطنبول.
و قد حاول
أحد الباشوات أن يستولي على المنحة التي كان السلطان يبعث بها كل عام لإعانة
الأسطول الجزائري، مما أثار سخط رياس البحر و الديوان (سلطته عسكرية)، فقرر هذا
الأخير خلال انعقاده سنة 1069ه/ 1659م أن يسحب من الباشا آخر ما بقي لديه من مظاهر
السلطان، و هو القيام على الأموال و الإحتفاظ بالخزينة ليتولاها يومئذ الآغا
يعاونه الديوان، بينما ألقي القبض على الباشا و أتباعه و أرسلوا إلى اسطنبول، و
بهذا أصبحت السلطة الفعلية بيد الآغا و هو ما أغضب الباب العالي على الجزائريين.
نظام الآغاوات
و يعتبر نظام
الآغاوات محاولة لإيجاد نوع من الديموقراطية داخل الطبقة العسكرية الحاكمة، فمدة
حكم الآغا لا تتجاوز شهرين، ويخلفه في مهامه أكثر العسكريين أقدمية.
لكن لم يمض
وقت طويل حتى ظهرت بوادر ضعف هذا النظام، فبين من رفض التخلي عن كرسي الحكم، و من
أعدم و من اغتيل، تبين من أول عهده استحالة تحقيق هذا النظام القائم على المساواة
المطلقة بين القادة العسكريين.
الهجوم على جيجل
ربيع سنة
1664، كلف المجلس الملكي الفرنسي الدوق "بوفور" بإعداد الأسطول لاحتلال
مدينة جيجل، لتكون قاعدة أساسية لاحتلال بقية المدن الساحلية الجزائرية والقضاء
التام على الأسطول الجزائري الذي أذاق فرنسا الأمرين في البحر الأبيض المتوسط.
![]() |
الدوق بوفور |
و من أهم
النقاط التي اعتمدت عليها فرنسا هو ضمان حياد الدولة العثمانية بسبب الخلافات
القائمة بين الباب العالي و إيالة الجزائر نتيجة المشاكل التي ذكرناها سابقا.
و في يوم 2 جويلية 1664، غادرت مرسى مدينة طولون الفرنسية عمارة حربية مؤلفة من 83 سفينة
يقودها الأميرالان "بول" و
"دوكين"، أما القوة العسكرية التي كان يحملها الأسطول و هي مؤلفة
من 8000 رجل، فكانت تحت قيادة الكونت
"دي قاداني"، أما الإشراف الأعلى على العملية برمتها فكان للدوق
"بوفور".
![]() |
الأميرال دوكين |
و في يوم 22
جويلية 1664، وصلت الحملة الفرنسية إلى سواحل مدينة جيجل، بعد أن انضمت إليها 7
سفن من أسطول مالطا، و في اليوم الموالي بدأ الفرنسيون بانزال الجنود إلى البر، و
اشتبكوا في معركة حامية مع رجال المدينة، انتهت باحتلال المدينة و الهضاب القريبة
منها في ذلك اليوم، و باشر الفرنسيون التحصين و الدفاع.
و كان
الإستيلاء على ميناء جيجل إيذانا بالجهاد ضد الغاصبين، فراحت القبائل القريبة من
المدينة تنظم المعارك ضد الفرنسيين بصفة تلقائية، و استمرت المناوشات طوال شهرين
كاملين، و خلال هذه الفترة كان الجيش الفرنسي يعرف انقسامات داخلية كبيرة، بسبب
تفاقم الخلافات بين مختلف القادة الذين لم تحدد صلاحياتهم بدقة، فراح كل واحد منهم
يتصرف على أنه الآمر الناهي في البعثة.
أما السلطة
المركزية في مدينة الجزائر، و نتيجة للإضرابات التي عرفتها في تلك الفترة، فلم
تتحرك إلا بعد استقرار الأوضاع السياسية في المدينة، و على إثر ذلك جهز الآغا
شعبان جيشا بريا انطلق لتحرير مدينة جيجل يوم 15 سبتمبر 1664، و في الطريق انضم
إليه الكثير من المتطوعين من سكان زواوة و القبائل الصغرى مثل بني عباس، و بني
ورتيلان، و بني يعلي، وقد وصلوا إلى جيجل في 29 من نفس الشهر، فانضم إليهم جميع
سكان المناطق المحيطة بجيجل و غيرهم من سكان الشريط الساحلي الشرقي الممتد من
مدينة جيجل إلى مدينة القل.
و قد خلف
وصول الجيش النظامي صدمة للفرنسيين الذين اعتمدوا على الخلافات القائمة بين
الأتراك و إمارة كوكو ببلاد القبائل، و ظنوا أن هذه الأخيرة لن تسمح بمرور الجيش
النظامي على اراضيها، و هو عكس ما حدث بل انضمت العديد من قبائل المنطقة إلى الجيش
لمحاربة العدو الصليبي و دحره من بلاد المسلمين.
و في الفاتح
من شهر أكتوبر ضرب الجزائريون حصارا على المدينة المحتلة و الهضاب القريبة منها، و
استمرت المناوشات بين الجانبين أربعة أيام، و في اليوم الخامس من أكتوبر، نظم الجيش
الجزائري هجوما عنيفا على الساعة الرابعة صباحا، و استمرت المعركة خمس ساعات متتالية.
و على إثر
هذه المعركة، أرسل الفرنسيون في طلب المدد من فرنسا، ووصلت الإمدادات فعلا يوم 22 أكتوبر،
و استأنفت بعدها معارك عنيفة جدا، قبل أن يشن الجزائريون هجوما كاسحا يوم 29
أكتوبر، دكت على إثره التحصينات الفرنسية، و تحطمت معها معنويات الجيش الفرنسي،
الذي قررت قياداته الإنسحاب بعدما شهدته من انهيار معنويات الجنود الذين كانوا
يصيحون بأعلى اصواتهم بأنهم "سيدخلون في الإسلام إن لم يوضع حد للمعركة".
و قد خسر الفرنسيون حوالي 1400 قتيل و أكثر من 2000 جريح، و لم يسمح لهم الجزائريون تحت قذف المدفعية بنقل أي شيء من سلاحهم و أمتعتهم، فتركوا كل ذلك غنيمة حرب، و كان من بين هذه الغنائم، مئة مدفع و كل الآلات و المعدات، و مما زاد من فداحة الخسارة لدى الفرنسيين، هو غرق السفينة الحربية الفرنسية المسماة "لالون La Lune" خلال عودتها إلى فرنسا حيث تحولت إلى مقبرة جماعية لأكثر من ثمانمائة جندي فرنسي قضوا غرقا قبالة سواحل مدينة طولون الفرنسية.
![]() |
السفينة الحربية الفرنسية لالون La Lune |
المراجع:
[1] مولود قاسم نايت بلقاسم.
شخصية الجزائر الدولية و هيبتها العالمية قبل سنة 1830، الجزء الثاني، ص 20-21.
[2] عبد الرحمان الجيلالي. تاريخ الجزائر العام، الجزء الثالث، ص
97-98.
[3] أحمد توفيق المدني. حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر و إسبانيا
1492-1792، ص 422-424.
[4] علي خنوف. تاريخ منطقة جيجل قديما و حديثا، ص 65-69.
[5] مبارك الميلي. تاريخ الجزائر في القديم و الحديث، الجزء الثالث، ص
181- 186.
[6] شارل فيرو. تاريخ جيجيلي، ص 106-107.
نفع الله بك
ردحذف